س- اكتب في حركة الدفاع الاجتماعي الحديث وتقديرها؟
أولا : نشأة الحركة
وقد نشأت الحركة على يد الاستاذ الإيطالى فيليبو جراماتيكا . جاءت أفكار جراماتيكا على النقيض من الأسس التى يقوم عليها الفكر الجنائى المعاصر، فهو لا يعترف بالعقوبات ولا بالمسؤولية الجنائية ،بل يذكر قانون العقوبات ذاته. وقرر جراماتيكا مسؤولية المجتمع عن السلوك المنحرف مسؤولية تلزمه بتأهيل من إنحرف سلوكه،وتجعل التأهيل حقا للشخص المنحرف.
لكن هذه الأفكار تعرضت للنقد الشديد لما يترتب عليها من نتائج خطيرة . لذلك حاول الاستاذ "مارك أنسل" المستشار الفرنسي تصحيح مسار الحركة ،وردها إلى إطار الشرعية الجنائية .وإليه يرجع الفضل في تأصيل هذه الحركة والدفاع عنها، بعد أن عرض المبادئ التى تقوم عليها.
ثانيا: المبادئ التى تقوم عليها الحركة :
تعرف هذه الحركة السياسية الجنائية بانها فن مكافحة الإجرام بالوسائل الملائمة لذلك .
ويمكن إجمال المبادئ التى تقوم عليها الحركة في الأمور التالية :
أ- ان المقصود من الدفاع الاجتماعى حماية المجتمع والفرد من الإجرام. وتكون حماية المجتمع بالقضاء على التأثير الضار للظروف التى من شأنها أن تغرى بالإقدام على الجريمة .أما حماية الفرد فتتحقق بتأهيله حتى لا يقدم على الجريمة مرة ثانية.
ب- ضرورة إحترام الكرامة الإنسانية والحريات العامة ،وعدم إهدارها تحت ستار تطبيق أساليب الدفاع الاجتماعى .
جـ- الاعتراف بمبدأ شرعية الجرائم والتدابير الجنائية ،والتسليم بحرية الاختيار كأساس للمسؤولية الجنائية.
د-إحلال تدابير الدفاع الاجتماعي محل العقوبات والتدابير الاحترازية . وتهدف تدابير الدفاع الاجتماعي إلى تأهيل المجرم ،ويمكن أن تنطوي على سلب للحرية أو تقييد لها.والتأهيل حق للمجرم والالتزام عليه . وينبغى اختيار التدبير الملائم لشخصية المجرم،وهو ما يقتضي فحص شخصية المتهم قبل تقديمه إلى المحاكمة ،وإعداد ملف الشخصية الذي يتيح للقاضى اختيار التدبير الملائم.
ثالثا:أغراض تدابير الدفاع الإجتماعى :
أدمجت حركة الدفاع الإجتماعى العقوبات والتدابير الإحترازية في نظام واحد، يضم مجموعة متعددة ومتنوعة من التدابير يطلق عليها "تدابير الدفاع الإجتماعى "،ويختار القاضى من بينها التدبير الذى يراه ملائما لحالة كل منهم بعد فحص الجوانب المختلفة في شخصيته.
ولم تقر حركة الدفاع الإجتماعى في هذه التدابير إلا غرضا واحدا هو تأهيل المجرم بإعتبار التأهيل هو السبيل إلى حماية المجتمع وحماية المجرم على حد سواء. فليس من اغراض التدابير وفقا لآراء أنصار هذه الحركة ، تحقيق العدالة أو الردع العام. فمعاملة المجرم تقتضى ألا يوضع في الاعتبار غير حقيقة واحدة، هى أن انسانا معينا قد إرتكب جريمة ،وينبغى مساعدته في ألا يرتكب غيرها بعد ذلك.
وليس معنى ذلك ان حركة الدفاع الإجتماعى الحديث ترى ضرورة إعتبار كافة المجرمين من قبيل المرضى الذين تهدف التدابير إلى علاجهم. بل إن القاضى ستكون له الصلاحية الكاملة لينطق بالتدبير الذى يراه يبدو أكثر توافقا مع حالته ، يستوى بعد ذلك أن يكون للتدبير طابع العقوبة كما هى في المفهوم التقليدى ،أو يكون تدبيرا احترازيا.
رابعا: تقدير حركة الدفاع الاجتماعى الحديث:
أ- مزايا الحركة
إنتشرت أفكار حركة الدفاع الإجتماعى الحديث إنتشارا واسعا ، سواء في الفقه أو فى التشريع الوضعى .
فقد إنضم إليها عدد كبير من أساتذة القانون الجنائى . وأنشئت جمعية دولية للدفاع الإجتماعى سنة 1949 وأنشئ قسم الدفاع الإجتماعى في الأمم المتحدة .
وعلى مستوى التشريع الوضعى تبنت بعض التشريعات كثيرا من الأفكار التى قالت بها حركة الدفاع الإجتماعى الحديث. من ذلك دراسة شخصية المتهم،وإنشاء نظام قاضى تطبيق العقوبات .
والواقع أن النجاح الذى لاقته هذه الحركة يرجع إلى طابعها الإنسانى التقدمى الواقعى . أو بعبارة أدق تمسكت بحد أدنى من الضمانات القانونية التى تحول دون تحول القضاء في أداء دوره الإجتماعى في مكافحة الإجرام إلى التحكم والإستبداد.
ب- الإنتقادات الموجهة إلى الحركة
1- انه يصعب إعتبارها مدرسة أو مذهبا عقابيا، لإفتقارها إلى الأساس الذى يجمع بين الافكار التى نادت بها .والواقع ان أصحاب هذه الحركة لم يدعوا لأنفسهم أنهم أصحاب مدرسة ،وإنما مجرد دعاة إلى تبنى"حركة إصلاح".
2- إغفالها تحقيق العدالة والردع العام كغرض للتدبير الاجتماعي التي نادت بها ،وقصر هدفها على التأهيل.
والواقع أن الحركة لم تحصر التدابير التى نادت بها في أنواع معينة دون غيرها ، بل إن هذه التدابير قد تتخذ صورة العقوبات بمعناها التقليدى وقد تكون تدابير إحترازية . وفي كلتا الحالتين قد تكون هذه التدابير سالبة للحرية أو مقيدة لها،ولا يخلو ذلك من تحقيق العدالة والردع العام بطريق غير مباشر،وإن لم يكن ذلك مقصودا لذاته.
3- الخلط بين صورتى الجزاء الجنائى وهما العقوبة والتدبير الاحترازى ،وهو أمر لا يتفق والطبيعة الخاصة لكل منهما، وهى طبيعة تفرض الجمع بينهما في ظل نظام جنائى واحد. مع تحديد مجال خاص لكل منهما. وقد رد الأستاذ مارك آنسل على هذا النقد،مؤكدا ان الدفاع الإجتماعى الحديث لا يعنى من حيث المبدأ هجر نظام الجزاء القائم على اللوم الاخلاقى ، فمكان العقوبة التقليدية يظل محفوظا في بعض الأحوال ، لا سيما في جرائم الإهمال الخطيرة ،والعديد من الجرائم الإصطناعية .
left]