المبحث الثالث
أسباب إباحة القذف
بيان هذه الأسباب:
علي الرغم من توافر أركان جريمة القذف فإن هناك عدة أسباب . إذا توافر أحدها . فإنه يؤدى إلي إباحة القذف . وأهم الأسباب ما يلي:
حق نشر الأخبار
حق النقد
الطعن في أعمال الموظف العام أو ما في حكمه.
حق التبليغ عن الجرائم والمخالفات الإدارية.
الحصانة البرلمانية .
حق الدفاع أمام المحاكم .
واجب أداء الشهادة.
ونخصص لكل من هذه الأسباب مطلباً علي حدة.
المطلب الأول
حق نشر الأخبار
علة الإباحة وسندها
تؤدى الصحافة، وسائر وسائل الأعلام، رسالة اجتماعية علي درجة كبيرة من الأهمية، وتتمثل وظيفتها الاولى في إعلام الجمهور بالأمور التي تهمه سواء علي المستوي الداخلي أو الدولي . فضلاً عن أنها – تساهم في تكوين وتوجيه الرأي العام. وتتيح لأفراد المجتمع الإطلاع علي قدر مشترك من القيم والمبادئ الاجتماعية، ومراقبة القائمين بالعمل العام. ولا شك في أن حق الصحافة في نشر الأخبار يعد نتيجة منطقية للحرية المكفولة لها طبقاً للدستور . كما أنه أمر تقتضيه مصلحة المجتمع في أن يعلم أفراده بما يدور فيه من أحداث في شتي المجالات. ولأهمية نشر الأخبار بالنسبة للجمهور، خاصة ذات الطابع الاجتماعي، وارتباطها بحق المواطن في الإعلام فقد نص قانون تنظيم الصحافة الجديد الصادر سنة 1996 في المادة التاسعة منه علي أنه يحظر فرض أي قيود تعوق حرية تدفق المعلومات أو تحول دون تكافؤ الفرص بين مختلف الصحف في الحصول علي المعلومات أو يكون من شأنها تعطيل حق المواطن في الإعلام والمعرفة، وذلك كله دون إخلال بمقتضيات الأمن القومي والدفاع عن الوطن ومصالحه العليا.
ويلاحظ أن نشر الأخبار قد ينطوي في بعض الأحوال علي مساس بحقوق الأفراد ، كأن يتضمن جريمة قذف أو سب، ويتبين أن أداء الصحافة لوظيفتها علي النحو الذي تتطلبه المصلحة العامة غير متصور بدون هذا المساس. عندئذ نكون بصدد تنازع أو تعارض بين مصلحتين: مصلحة المجتمع في إعلام الجمهور بالأمور التي تهمه، ومصلحة المجني عليه في صيانة شرفة واعتباره، ويرجح المشرع المصلحة الأكثر أهمية وهي مصلحة المجتمع علي مصلحة الفرد.
وسند إباحة نشر الأخبار هو ( استعمال الحق ). وهذا الحق لا يقتصر علي الصحفيين وحدهم. وذلك لأن حرية الصحفي هي جزء من حرية الفرد العادي ولا يمكن أن يتجاوزها إلا بتشريع خاص. وإن كان من المقرر أن حق المواطن في الإعلام يفترض التسليم بحق الصحفي في الحصول علي المعلومات . بل وفي بعض الأحوال، تكون الصحافة ملزمة بنشر الأخبار ولو كان هذا النشر ينطوي علي المساس بشرف أحد الأفراد وعندئذ تستند الإباحة إلي ( أداء الواجب ). ومن أمثلة ذلك، نشر البلاغات الرسمية . وهو ما تنص عليه المادة 23 من قانون المطبوعات بقولها
يجب علي رئيس التحرير أو المحرر المسئول أن يدرج بغير مقابل في أول عدد يصدر من الجريدة وفي الموضع المخصص للأخبار المهمة ما ترسله إليه وزارة الداخلية من البلاغات المتعلقة بالمصلحة العامة أو الخاصة لمسائل سبق نشرها في الجريدة المذكورة).
وسوف نحدد الشروط العامة لاستعمال الحق في نشر الأخبار ، ثم نعرض بعض التطبيقات لهذا الحق ، وذلك في فرعين علي التوالي.
الفرع الأول
الشروط العامة لاستعمال الحق في نشر الأخبار
تمهيد:
قدمنا ان الغرض الذي تقرر من أجله حق نشر الأخبار هو إعلام الجمهور بالإحداث والأمور التي تهمه. وفي ضوء ذلك يمكن القول بوجوب توافر أربعة شروط لإباحة نشر الأخبار ، هي : أن يكون الخبر صحيحاً ، وألا يكون من الأخبار المحظور نشرها ، وأن يكون ذا طابع اجتماعي ، وأن يكون الناشر حسن النية.
· أولاً: أن يكون الخبر صحيحاً:
وهذا ما تقتضية المصلحة الاجتماعية ، لأن نشر الأخبار غير الصحيحة ، سواء بقصد أو بدون قصد ، يحدث في الغالب أضراراً بالغة بالصالح العام، ويؤدى إلي تضليل الرأي العام. ولذا نجد أن المشرع يعاقب علي نشر الأخبار الكاذبة في حالات معينة ( أنظر المادتين 102 مكرراً، 188 من قانون العقوبات). وقد اعتبر قانون تنظيم الصحافة رقم 96 لسنة 1996 ( الالتزام بالصدق) عند النشر، أحد الواجبات الهامة التي تقع علي عاتق الصحفيين ( المادة 18 ) . ولاشك أن هذا الواجب يفرض علي الصحافة وكافة وسائل الأعلام، من ناحية ، الالتزام بنشر الأخبار الصحيحة وحدها ، وعدم التنافس علي الإثارة ومحاولة إرضاء الجمهور بأية وسيلة، وأن تلتزم ، من ناحية أخرى ، بالموضوعية عند التعليق علي الأخبار والمعلومات. وواجب الموضوعية المفروض علي الصحفي ، يقتضي منه قبل النشر، كما قضت محكمة النقض الفرنسية، التحقق من صحة الوقائع التي ينشرها.
· ثانياً: ألا يكون من الأخبار المحظور نشرها:
تقتضي مصلحة المجتمع في حالات معينة ، أن تظل بعض الأخبار والمعلومات سرية ، ومن ثم يحظر القانون نشرها. رغم كونها صحيحة. ويعاقب من يخالف هذا الحظر ، سواء كان صحفياً أو غير صحفي. ومن أبرز الأمثلة علي ذلك في القانون المصري ما تنص عليه المادة 80(أ) فقرة من قانون العقوبات بأنه يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد علي خمس سنوات وبغرامة لا تقل عن مائة جنية ولا تجاوز خمسمائة جنية كل من أذاع بأية طريقة سراً من أسرار الدفاع عن البلاد. وطبقاً للمادة 85 عقوبات يعتبر سراً من أسرار الدفاع:
المعلومات الحربية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية و الصناعية التي بحكم طبيعتها لا يعلمها إلا الأشخاص الذين لهم صفة في ذلك ويجب مراعاة مصلحة الدفاع عن البلاد أن تبقي سراً على من عدا هؤلاء الأشخاص.
الأشياء والمكاتبات والمحررات والوثائق والرسوم والخرائط والتصميمات والصور وغيرها من الأشياء التي يجب الدفاع عن البلاد ألا يعلم بها ألا من يناط بهم حفظها أو استعمالها والتي يجب أن تبقي سراً على من عداهم خشية أن تؤدي إلي إفشاء معلومات مما أشير إليه في الفقرة السابقة.
الأخبار والمعلومات المتعلقة بالقوات المسلحة وتشكيلاتها وتحركانها وعتادها وتموينها وأفرادها، وبصفة عامة كل ما له مساس بالشئون العسكرية والاستراتيجية ولم يكن قد صدر إذن كتابي من القيادة العامة للقوات المسلحة بنشره أو إذاعته.
الأخبار والمعلومات المتعلقة بالتدابير والإجراءات التي تتخذ لكشف الجرائم المنصوص عليها في هذا الباب ( أي الجنايات والجنح المضرة بأمن الدولة من جهة الخارج ) أو تحقيقها أو محاكمة مرتكبيها.
كذلك يحظر المشرع نشر أخبار بشأن بعض الإجراءات القضائية لضمان حسن سير العدالة ، أو مراعاة للنظام العام أو للآداب . ( أنظر المواد 189 ، 190 ، 193 من قانون العقوبات).
· ثالثاً: أن يكون الخبر ذا طابع اجتماعي :
أي ينبغي أن ينصب النشر علي الأخبار التي تهم الجمهور ، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية أو غير ذلك. أما إذا كان متعلقاً بالحياة الخاصة لأحد الأفراد ، وليس له أهمية اجتماعية، فلا تسري علي نشره الإباحة. وتأكيداً علي هذا المعني نصت المادة 21 من قانون تنظيم الصحافة الجديد ( رقم 96 لسنة 1996 ) علي أنه ( لا يجوز للصحفي أو غيره أن يتعرض للحياة الخاصة للمواطنين، كما لا يجوز له أن يتناول مسلك المشتغل بالعمل العام أو الشخص ذي الصفة النيابية العامة أو المكلف بخدمة عامة إلا إذا كان التناول وثيق الصلة بأعمالهم ومستهدفاً المصلحة العامة).
· رابعاً : حسن نية الناشر:
ويقصد بهذا الشرط أن يستهدف القائم بنشر الخبر الغرض الذي تقررت من أجله إباحة نشر الأخبار ، وهي إعلام الجمهور بالأمور التي تهمه ، أي لابد أن يستهدف تحقيق المصلحة العامة ، لا مجرد التشهير أو الانتقام من الشخص الذي يسند إليه الخبر.
الفرع الثاني
تطبيقات لاستعمال الحق في نشر الاخبار
تمهيد:
إن إباحة نشر الأخبار بالشروط السابقة تستفيد منها كافة وسائل الأعلام . كما أنها تسري علي جميع الأخبار والمعلومات طالما أن هناك مصلحة اجتماعية تتطلب أن يعلم الجمهور بها، ومادام أن القائم بالنشر قد التزم بالحدود المرسومة لممارسة حقه.
ويهمنا أن نشير فيما يلي إلي بعض تطبيقات حق الصحافة وغيرها من وسائل الإعلام في نشر الأخبار، وبصفة خاصة ( الإجراءات القضائية )، فنبين مدى جواز نشر إجراءات التحقيق الابتدائي، والحق في نشر ما يجري في المحاكمات العلنية، ولعله من المفيد أن نتناول قبل ذلك نشر أخبار الجرائم.
نشر أخبار الجرائم
أهتم الباحثون في علم الإجرام وعلم النفس وعلم الاجتماع – وغيرهم من المتهمين بتحديد عوامل الظاهرة الإجرامية بهدف القضاء عليها أو الحد من تأثيرها- بدراسة أثر نشر أخبار الجرائم علي معدل الجريمة في المجتمع. سواء كان هذا النشر بواسطة الصحافة المكتوبة أو الروايات البوليسية أو بواسطة الإذاعة أو التليفزيون أو السينما. ويمكن التمييز بين اتجاهين مختلفين في هذا الموضوع أولهما : يعارض نشر أخبار الجرائم في الصحف وغيرها من وسائل الأعلام وثانيهما: يؤيد هذا النشر. وسوف نعرض فيما يلي الحجج التي استند إليها كل منهما، ثم نبين الرأي الذي نراه أولي بالأتباع في هذا الصدد.
الاتجاه المعارض لنشر أخبار الجرائم:
يري جانب من الفقه أنه لا يجوز نشر أخبار الجريمة بواسطة وسائل الإعلام، لأن هذا النشر يؤدي بطريق غير مباشر إلي ازدياد ارتكاب الجرائم، ومن ثم يصيب الفرد والمجتمع بأضرار بالغة. واستند أنصار هذا الرأي في ذلك إلي الحجج الآتية:
أولا : إن نشر هذه الأخبار يزيل تدريجيا , على الأقل لدى بعض الأفراد , عن الجريمة صفتها القبيحة , ويحولها من كونها أمر شاذاً وغير مألوف في المجتمع , إلى اعتبارها شيئاَ عادياً من كثرة الحديث عنها , مما قد يدفع البعض , وبصفة خاصة الأحداث والشبان القابلين للتأثر بسهولة إلى الإقدام على ارتكاب جرائم مماثلة من باب تقليد المجرمين .
ثانياً : إن بعض الصحف تخصص مكاناً بارزاً لأخبار الجريمة . بصورة مثيرة ومبالغ فيها , ونشر تفاصيل كيفية ارتكابها والوسائل التي استخدمها الجناة . وقد تكون وسائل حديثة , مما قد يدفع المجرمين الاحتمالين إلى التدريب على استعمالها ومن ثم إلى ارتكاب أفعال إجرامية مماثلة .ونفس القول يصدق على بعض الأفلام التي تعرض في التليفزيون أو السينما , وبصفة خاصة أفلام العنف . وتلك التي تعرض مشاهد جنسية فاضحة ,وغير ذلك مما يركز على تفاصيل كيفية ارتكاب بعض الجرائم .
ومن ناحية أخرى , فأن نشر أخبار الجريمة يزود الجمهور أحياناً بمعلومات عن جرائم جديدة , وبالتالي يساهم في دفع البعض إلى ارتكاب هذه الجرائم , فمثلا يذكر إن جريمة خطف الأطفال لابتزاز أبائهم والحصول منهم على أموال طائلة ( كفدية ) لم تكن معروفة في فرنسا إلى إن نشرت الصحف في الولايات المتحدة الأمريكية تفاصيل واقعة خطف احد الأطفال ويدعى Lindberg . ولم تكد تمر بضعة أشهر حتى ارتكبت العديد من جرائم خطف الأطفال في فرنسا .
ثالثاً : إن نشر أخبار الجريمة بواسطة الصحف وغيرها من وسائل الإعلام يضر في بعض الأحوال بحسن سير العدالة , لأن الصحفي لا يقتصر على نشر الخبر في ذاته , وإنما يلجأ غالباً إلى التعليق عليه , بل ويعرض رأيه في الحكم الواجب تطبيقه على المتهم .
الاتجاه المؤيد لنشر أخبار الجرائم :
يرى أنصار هذا الرأي أنه ينبغي التسليم بحق وسائل الإعلام في نشر أخبار الجرائم , لما لهذا النشر من منفعة اجتماعية تتمثل في أنه يساعد في مكافحة الظاهرة الإجرامية . واستندوا في ذلك إلى ما يلي :
1- إن من وظائف الصحافة إعلام الجمهور بالأمور ذات الطابع العام التي تهمه سواء أكانت طيبة أو سيئة . وبالتالي يجب التسليم بحقها فى نشر إخبار الجريمة لإعلام الرأي العام بما يقع فى المجتمع من حوادث .
2- إن نشر أخبار الجريمة يساعد السلطات المختصة في القبض على الجناة .
3- إن الصحافة عندما تنشر أخبار الجرائم تقوم بدور وقائي من الجريمة فهي , من ناحية , تزود القراء او المشاهدين بمعلومات وخبرات تساعدهم فى ألا يكونوا ضحايا لبعض المجرمين . و من ناحية أخرى , فإن الخشية من العلانية تعتبر أحد العوامل التي تمنع بعض الأشخاص من الإقدام على ارتكاب الجريمة . ومن ناحية ثالثة , فإن نشر هذه النوع من الأخبار يتيح , في نظر جانب من الشراح , لبعض القراء او المشاهدين الفرصة لإفراغ ميولهم العدوانية أو شهواتهم فيما يقرأون أو يشاهدون بدون خطر سواء على أنفسهم أو بالنسبة للمجتمع .
4- إن نشر أخبار الجريمة في الصحف وغيرها من وسائل الإعلام يعد تطبيقاً لمبدأ علنية المحاكمات الجنائية .
ضوابط نشر أخبار الجرائم :
في الواقع إنه من الصعب الأخذ بأي من الرأيين السابقين على إطلاقه , فالرأي الأول يتعارض مع حرية الصحافة وحق الجمهور فى الإعلام . والرأي الثاني يتجاهل التأثير السيئ لنشر تفاصيل الجرائم فى الصحف و غيرها من وسائل الإعلام على بعض الأشخاص . ولذلك يذهب جانب من الشراح بحق الى التسليم بجواز نشر أخبار الجرائم في وسائل الإعلام مع التقييد بضوابط معينة تكفل تفادى التأثير الضار لهذا النشر على الرأي العام والأخلاق العامة . وإيذاء صعوبة وضع نصوص محددة تبين ما يجوز نشره , وما لا يجوز فى هذا الشأن ذهب البعض إلى القول بضرورة تقيد الصحفي بالواجبات الأخلاقية الملحة التي تفرضها عليه آداب ممارسة المهنة .
وقيل أيضاً أنه يجب , عند نشر أخبار الجرائم , عدم ذكر أسماء أو عناوين أو صور المتهمين , وألا يوضع خبر الجريمة فى الصفحات الأولى للجريدة , وأن يلتزم الصحفي في مقاله أو برنامجه الإذاعي أو التلفزيوني الذي يتضمن خبر الجريمة ببيان المبادئ الأخلاقية وقواعد النظام العام التى انتهكت بارتكاب الجريمة والعقوبات المقررة لها , وأن يشير الى الوسائل التي يكون من شأنها مكافحة الجريمة وتلك التي تؤدى إلى تأهيل المحكوم عليهم اجتماعياً .
ونلخص مما تقدم إلى أنه يجوز نشر أخبار الجرائم مع تجنب تفاصيل كيفية ارتكابها , ومع الالتزام بالموضوعية , والبعد عن الإثارة , وتراجع الاعتبارات التجارية , و عدم ذكر أسماء المتهمين .
2 مدى حق الصحافة في نشر إجراءات التحقيق الابتدائي :
يثور التساؤل الآتي : هل يجوز للصحافة نشر ما يجرى في التحقيقات الابتدائية , سواء كانت جنائية أو إدارية , ومن ثم لا يسأل القائم بالنشر عما قد يتضمنه ذلك النشر من أمور تعتبر جرائم كالقذف أو السب .... أم أنه لا يجوز لها ذلك , وبالتالي يسأل جنائياً من ينشر ما يجرى فى تلك التحقيقات عما يتضمنه النشر من جرائم ؟
تقتضى الإجابة على هذا التساؤل أن نعرض أولاً الحالات التي يحظر فيها القانون من نشر أخبار التحقيق الابتدائي صراحة , ثم نبين موقف الفقه من نشر هذه الأخبار فى الحالات الأخرى .
الحالات التي يحظر فيها القانون صراحة نشر أخبار التحقيق الابتدائي .
يحظر المشرع نشر أخبار التحقيق الابتدائي في الأحوال الآتية :
أولا : إذا كانت سلطة التحقيق قد قررت إجراءه في غيبة الخصوم أو كانت قد حظرت إذاعة شيء منه مراعاة للنظام العام أو الآداب أو لظهور الحقيقة (الفقرة (أ) من المادة 193 من قانون العقوبات ) .
ثانياً : إذا كانت التحقيقات متعلقة بدعوى من دعاوى الطلاق أو التفريق أو الزنا ( الفقرة (ب) من المادة 193 عقوبات ) .
ثالثاً : إذا كان التحقيق متعلقاً بجريمة من الجرائم المضرة بأمن الدولة من جهة الخارج ( الفقرة الرابعة من المادة 85 من قانون العقوبات ) .
وبطبيعة الحال , فإن من يخالف هذا الحظر يتعرض للعقوبات المبينة فى النصوص المذكورة .
الخلاف الفقهي حول مدى يجوز نشر إجراءات التحقيق الابتدائي في غير الحالات السابقة :
لم يثر خلاف في الفقه بشأن الحالات الثلاث المشار إليها التي حظر فيها القانون نشر أخبار التحقيق الابتدائي , وإنما ثار الخلاف حول غيرها من الحالات : ففريق من الشراح يؤيد حق الصحافة فى نشر أخبار ما يجرى في التحقيقات الابتدائية , الجنائية والإدارية , ويذهب آخرون الى إنكار هذا الحق .
· الاتجاه الأول : الاعتراف بحق الصحافة فى نشر أخبار التحقيقات الابتدائية :
يذهب أنصار هذا الرأي الى القول بأنه يجوز للصحافة نشر أخبار ما يجرى في التحقيقات الابتدائية , كالقرارات التى تصدر عن سلطة التحقيق أو أقوال المتهمين أو وكلائهم أو الشهود أو تقارير الخبراء , وذلك فيما عدا الحالات التي حظر فيها القانون صراحة نشر أخبار هذه التحقيقات .
وقد استند القائلون بهذا الرأي الى أن نشر أخبار التحقيق الابتدائي يعتبر استعمالاً لحق يقرره القانون للصحافة , ألا وهو : (الحق في نشر الأخبار ) والذي يعد نتيجة لمبدأ حرية الصحافة الذي أكده الدستور. ولما كان تقرير الحق يفترض إباحة الوسيلة لاستعماله فإنه ينبغي التسليم بحق الصحافة في نشر أخبار التحقيقات الابتدائية. وبناء عليه، إذا تضمن النشر في تلك الحالة جريمة كالقذف أو السب، فأن القائم بالنشر لا يكون مسئولا جنائياً ولا مدنياً.
الاتجاه الثاني :إنكار حق الصحافة في نشر أخبار التحقيقات الابتدائية :
المبدأ العام الذى يحكم التحقيق الابتدائي هو السرية بالنسبة للجمهور.وذلك على خلاف المحاكمة حيث أن الأصل فيها العلنية. وقد نص المشرع المصري على مبدأ سرية التحقيق الابتدائي في المادة 75 من قانون الإجراءات الجنائية بقوله :« تعتبر إجراءات التحقيق ذاتها والنتائج التي تسفر عنها من الأسرار ويجب على قضاة التحقيق وأعضاء النيابة العامة ومساعديهم من كتاب وخبراء وغيرهم ممن يتصلون بالتحقيق أو يحضرونه بسبب وظيفتهم أو مهنتهم عدم إفشائها ،ومن يخالف ذلك منهم يعاقب طبقاً للمادة 310 من قانون العقوبات » . والمشرع يقرر سرية التحقيق لتسهيل الوصول الى الحقيقة، وتفادى التأثير الضار- الذى تحدثه العلانية – للرأي العام في سلطة التحقيق ، وللحفاظ على سمعة المتهم واحترام حقه فى الحياة الخاصة .
ومن اجل ذلك ، فقد ذهب جانب من الفقه بحق إلى القول بأنه لا يجوز للصحف أو غيرها من وسائل الإعلام نشر ما يجرى في التحقيقات الابتدائية ،لأن هذه التحقيقات ليست علنية ، فلا يشهدها إلا الخصوم أو وكلاؤهم، كما أنها لا تدخل ضمن إجراءات المحاكمة حتى تسرى عليها إباحة نشر ما يجرى في المحاكمات العلنية .ومن ثم إذا قام شخص سواء كان صحيفاً أو غير صحفي بنشر أخبار هذه التحقيقات وما قد يتخذ من إجراءات كالقبض أو التفتيش أو الحبس الاحتياطي، فإنه يكون مسئولا جنائياً عما يتضمنه النشر من جرائم كالقذف أو السب أو التحريض. سواء في ذلك أن يكون التحقيق جنائياً أو إدارياً .
وقد أخذ القضاء المصري بهذا الرأي فقضت محكمة النقض بأنه : « دل الشارع بما نص عليه في المادتين 189 و 190 من قانون العقوبات على أن حصانة النشر مقصورة على الإجراءات القضائية العلنية والأحكام التي تصدر علناً ، وان هذه الحصانة لا تمتد إلى ما يجرى في الجلسات غير العلنية ولا إلى ما يجرى في الجلسات غير العلنية ولا إلى ما يجرى في الجلسات التي قرر القانون أو المحكمة الحد من علنيتها، كما أنها مقصورة على إجراءات المحاكمة ولا تمتد إلى التحقيق الابتدائي ،ولا إلى التحقيقات الأولية أو الإدارية ،لأن هذه كلها ليست علنية ، إذ لا يشهدها غير الخصوم و وكلائهم ، فمن ينشر وقائع هذه التحقيقات أو ما يقال فيها أو يتخذ في شأنها من ضبط وحبس وتفتيش واتهام وإحالة على المحاكمة ،فإنما ينشر ذلك على مسئوليته ، وتجوز محاسبته جنائياً عما يتضمنه النشر من قذف وسب وإهانة »
وقد حدث أن صحيفة أخبار اليوم نشرت في عددها الصادر يوم 29 نوفمبر سنة 1976 خبراً تحت عنوان
« اتهام وكيل وزارة ومدير ومراقب عام بالاشتراك في تبديد أموال هيئة الأوقاف » . على الرغم من أن هذه المسألة كانت حينذاك قيد البحث والتحقيق ولم يبت فيها .فأقام المجني عليهم دعوى ضد السيد الأستاذ رئيس مجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم بصفته لإلزامه بالتعويض عما أصابهما من أضرار نتيجة هذا النشر،فحكمت محكمة الموضوع بتاريخ 29 أبريل سنة 1981 بإلزامه بأن يؤدى إلى المجنى عليهما مبلغ 251 جنيهاً تعويضاً مؤقتاً،وقد استأنف المحكوم عليه هذا الحكم لدى محكمة استئناف القاهرة، وبتاريخ 22 أبريل سنة 1982 حكمت المحكمة بإلغاء الحكم المستأنف وبرفض دعوى الطاعنين، وأقام هذا الحكم قضاءه على اساس ان سرية التحقيق الابتدائى وحظر إفشائه تقتصر على القائمين به ومن يتصلون به بحكم وظيفتهم أو مهنتهم، ولا يستطيل الى الصحف التى كفل القانون لها حرية النشر، طالما لم يصدر قرار من الجهة المختصة بحظره، وأن الصحيفة تجردت من سوء النية أو قصد التشهير والانتقام ....
ولكن محكمة النقض نقضت هذا الحكم وقالت : « أن الشارع قد دل بما نص عليه في المادتين 189 و 190 من قانون العقوبات على أن حصانة النشر مقصورة على الإجراءات القضائية العلنية والاحكام التي تصدر علناً ،ولا تمتد إلى التحقيق الابتدائي ولا إلى التحقيقات الأولية أو الإدارية ، لأن هذه كلها ليست علنية ... » وأضافت المحكمة إلى ذلك أنه : ولئن جاز للصحف وهى تمارس رسالتها بحرية في خدمة المجتمع تناول القضايا بالنشر في مرحلة التحقيق الابتدائى أو الأولى باعتبارها من الأحداث العامة التي تهم الراى العام ، إلا أن ذلك ليس بالفعل المباح على إطلاقه ، وإنما هو محدود بالضوابط المنظمة له ، ومنها أن يكون النشر في إطار المقومات الأساسية للمجتمع والحفاظ على الحريات والحقوق والواجبات العامة، واحترام حرمة الحياة الخاصة للمواطنين ، وعدم الاعتداء على شرفهم وسمعتهم واعتبارهم أو انتهاك محارم القانون .
ويلاحظ أن الصحفي الذى يحصل على معلومات معينة عن سير التحقيق الابتدائي ويقوم بنشرها لا يعاقب وفقاً للمادة 310 من قانون العقوبات الخاصة بجريمة إفشاء سر المهنة ، لأن نص المادة 75 من قانون الإجراءات الجنائية لا ينصرف إلى الصحفيين إذ إنهم لا يعتبرون ممن يحضرون التحقيق بسبب وظيفتهم أو مهنتهم ، بل ولا تربطهم بالتحقيق أية صلة .ومع ذلك ، فإن الصحفي يمكن أن يسأل عما يتضمنه نشر إجراءات التحقيق من جرائم كالقذف أو السب ، إذا توافرت شروط المسئولية . ويرى بعض الشراح أن الصحفي يمكن أن يعاقب باعتباره شريكاً في جريمة إفشاء سر المهنة إذا حرض شخصاً من الذين يلتزمون بعدم إفشاء أسرار التحقيق على مخالفة هذا الالتزام ، كذلك تجوز معاقبته عن جريمة التأثير في سلطات التحقيق أو الشهود إذا توافرت أركانها .
الحق في نشر ما يجرى في المحاكمات العلنية
· قاعدة علانية المحاكمة وأهميتها:
يراد بعلانية المحاكمة السماح للجمهور بغير تمييز بحضور جلساتها . وعلانية إجراءات المحاكمة تعتبر
(لا سيما في الدول الديموقراطية التي تحرص على حماية الحقوق والحريات الفردية ). احد المبادئ الأساسية في التشريعات الإجرائية الحديثة، لما تنطوي عليه من أهمية بالغة للفرد والمجتمع على حد سواء: فالسماح للجمهور بحضور المحاكمة يجعل منه رقيباً على سلامة إجراءاتها ، وبالتالي يعد احد ضمانات المحاكمة العادلة التي ينبغي كفالتها للمتهم. ومن ناحية أخرى ، فإن هذا الحضور يدعم ثقة الجمهور في عدالة القضاء ، وبالتالي يؤدى إلى إرضاء الشعور العام بالعدالة . وقد حرص الدستور المصري على النص صراحة على هذه القاعدة في المادة 169 منه بقوله: « جلسات المحاكم علنية، إلا إذا قررت المحكمة جعلها سرية مراعاة للنظام العام أو الآداب، وفى جميع الأحوال يكون النطق بالحكم في جلسة علنية ». وكذلك نصت عليها المادة 268 من قانون الإجراءات الجنائية بقولها : « يجب أن تكون الجلسة علنية ، ويجوز للمحكمة مع ذلك مراعاة للنظام العام ، أو محافظة على الآداب ، أن تأمر بسماع الدعوى كلها أو بعضها في جلسة سرية أو تمنع فئات معينة من الحضور فيها ». كما نص قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي على هذه القاعدة ( المواد 306 ، 400 ، 512 ، 525 ) .
ويترتب على قاعدة علانية جلسات المحاكمة أنه يجوز نشر ما يجرى فيها . والحق في النشر في هذه الحالة يكون للصحفي ولغيره ، ولا تترتب عليه آية مسئولية عن الجرائم التي قد ينطوي عليها النشر كالقذف أو السب أو غيرهما ، لأن نشر ما يجرى في المحاكمات العلنية سواء بواسطة الصحف أو غيرها ، هو امتداد وتكملة لعلانيتها. وبالإضافة إلى ذلك، فهو بالنسبة للصحافة يعتبر أحد تطبيقات استعمال حقها في نشر الأخبار التي تهم الجمهور بصفة عامة.
ومع ذلك ، فقاعدة علانية المحاكمة ليست مطلقة ، وإنما أورد عليها المشرع بعض الاستثناءات ، وبالتالي ينبغي أن نحدد الشروط اللازمة لإباحة نشر ما يجرى في جلساتها .
شروط إباحة نشر إجراءات المحاكمة :
تتمثل هذه الشروط فيما يلي :
· أولاً : يجب أن يقتصر النشر على ما يجرى في الجلسات العلنية :
وبناء على ذلك ، فلا تمتد الإباحة إلى نشر إجراءات المحاكمة التي تجرى في الجلسات السرية أو ما يجرى في الجلسات التي ينص القانون أو تقرر المحكمة الحد من علانيتها . وتفسير ذلك ، إن علانية جلسات المحاكمة قد تؤدى في بعض الأحوال إلى الإضرار بالمصلحة العامة أو المساس بالحياة الخاصة للأفراد . مما دفع المشرع إلى تقرير سرية الجلسة أو الحد من علانيتها في حالات معينة . ومن أبرز هذه الحالات« سرية محاكمة الأحداث » التي قررها صراحة قانون الأحداث الصادر سنة 1974 في المادة 34 منه وتنص على أنه« لا يجوز أن يحضر محاكمة الحدث إلا أقاربه والشهود والمحامون والمراقبون الاجتماعيون ومن تجيز له المحكمة الحضور بإذن خاص ... »
وقد تضمن قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996 نصاً مماثلاً (المادة 126 ). ويقرر القانون الفرنسي نفس الحكم بمقتضى المادة 14 فقرة ثانية من الأمر الصادر في 2 فبراير سنة 1945 بشأن الأحداث المجرمين. وترجع علة سرية محاكمة الأحداث إلى حرص المشرع على حماية الحياة الخاصة للحدث ولأسرته ، وخشية أن تؤدى العلانية إلى تحطيم نفسيته وعرقلة إصلاحه وتأهيله اجتماعيا . ومؤدى ذلك. إنه لا يجوز نشر ما يجرى في جلسات محاكمة الأحداث. ومن باب أولى ، لا يجوز إجراء أية مقابلات تليفزيونية مع الحدث المجرم ، سواء في مرحلة التحقيق أو المحاكمة .
ويلاحظ أن المشرع يحظر نشر ما يجرى في بعض الدعاوى حتى وإن كانت منظورة أمام المحكمة في جلسة علنية . كما هو الحال بالنسبة لإجراءات المحاكمة المتعلقة بالجنايات والجنح المضرة بأمن الدولة من جهة الخارج (المادتان 80 (أ) فقرة ، 85/4 من قانون العقوبات ) ، وحظر نشر أخبار بشأن التحقيقات والمرافعات في دعاوى الطلاق أو التفريق أو الزنا (المادة 193 (ب) عقوبات ) ، وحظر نشر ما يجرى في الدعاوى المتعلقة بالجرائم التي ترتكب بواسطة الصحف وغيرها المنصوص عليها في الباب الرابع عشر من الكتاب الثاني من قانون العقوبات ، والقذف والسب وإفشاء الأسرار (انظر المادة 189 عقوبات ) .
وقد خول المشرع للمحكمة سلطة تقديرية في أن تأمر بسماع الدعوى كلها أو بعضها في جلسة سرية مراعاة للنظام العام أو المحافظة على الآداب. وفى هذه الحالة لا يجوز نشر ما يجرى في الدعاوى التي قررت المحكمة سماعها في جلسة سرية . وإلا تعرض المخالف للعقاب المنصوص عليه في المادة 189 من قانون العقوبات .
· ثانياً: يجب أن يقتصر النشر على إجراءات المحاكمة العلنية :
ويستوي أن ينصب النشر على جميع الإجراءات أو بعضها كالمرافعات والأقوال التي تبديها النيابة العامة أو الخصوم أو وكلاؤهم أو الشهود أو الخبراء أو ما تجريه المحكمة من تحقيقات وما تصدره من قرارات وأحكام. ويترتب على هذا الشرط أمران : الأول :أن إباحة النشر لا تمتد إلى ما لا يعتبر من إجراءات المحاكمة مثل الهتافات أو الاعتداءات التي تقع في الجلسة . والثانى : أن الإباحة لا تسرى على نشر الإجراءات غير العلنية ، كالمداولات .فالمداولة في الأحكام تكون سرية ، ومن ينشر ما جرى فيها يعاقب وفقاً للمادة 191 من قانون العقوبات .
· ثالثاً : توافر حسن النية لدى القائم بالنشر :
ويعتبر حسن النية متوافراً لديه إذا كان يستهدف بفعله تحقيق المصلحة العامة التي من أجلها قرر المشرع إباحة نشر ما يجرى في المحاكمات العلنية، لا مجرد الرغبة في التشهير أو الانتقام. وهذا يفترض أن يقتصر النشر على عرض الوقائع والأقوال في حد ذاتها ودون التعليق عليها. ويجب أن يتم النشر بأمانة بحيث يترتب عليه إعلام الجمهور الذى لم يشهد المحاكمة العلنية بما جرى فيها على ذات النحو لمن شاهده . وتطبيقاً لذلك، وتدعيماً لمبدأ علانية جلسات المحاكمة، نصت المادة 41 من قانون الصحافة الفرنسي الصادر في يوليو سنة 1881 (في فقرتها الثالثة على انه لا يحكم بعقوبة القذف أو السب أو الاهانة على من ينشر بأمانة وحسن نية المرافعات القضائية . وفى القانون المصري يعاقب من ينشر بغير أمانة وبسوء قصد ما جرى في الجلسات العلنية بالمحاكم وفقاً للمادة 191 من قانون العقوبات.
ويتطلب بعض الشراح ، لإباحة نشر إجراءات المحاكمات العلنية ، أن يلتزم القائم بالنشر باحترام القضاء . ونعتقد أن ذلك يرتبط بوجوب توافر حسن النية ، لأن مؤدى هذا الشرط الأخير- كما سبق أن ذكرنا – أن يسعى من ينشر إجراءات المحاكمة العلنية ، سواء أكان صحفياً أو غير صحفي ، إلى تحقيق المصلحة العامة . ولا شك انه مما يتعارض مع هذه المصلحة أن ينطوي نشر الإجراءات المذكورة – و لو بطريق غير مباشر - على مساس بكرامة المحكمة التي تنظر الدعوى . وعلى أية حال ، فإن القانون المصري يعاقب كل من اخل بإحدى طرق العلانية بمقام قاض أو هيبته أو سلطته في صدد دعوى (المادة 186 من قانون العقوبات ) .
· رابعاً: يتعين أن يكون النشر معاصراً لوقت المحاكمة .
لأنه في هذه الحالة فقط يعتبر النشر إمتداداً لعلانية المحاكمة وتكملة لها . على أن يلاحظ أنه لا يقصد بمعاصرة النشر لوقت المحاكمة وجوب أن يتم النشر في نفس تاريخ إجراءات المحاكمة لتمتد إليه الإباحة ، وإنما ينبغي أن يحصل النشر في وقت قريب لتاريخ المحاكمة . وبطبيعة الحال، فإن تقدير توافر هذا الشرط أو عدم توافره من سلطة قاضى الموضوع في ضوء ظروف كل قضية على حدة .
المطلب الثاني
حق النقد
تعريف حق النقد :
النقد هو تقييم أمر أو عمل معين لبيان مزاياه وعيوبه. وقد عرفته محكمة النقض بأنه : «إبداء الرأي في أمر أو عمل دون المساس بشخص صاحب الأمر أو العمل بغية التشهير به أو الحط من كرامته » . وقيل أن النقد المباح يختلف اختلافاً جوهرياً عن القذف ، فالأول ليس فيه مساس بشرف الغير أو اعتباره أو سمعته ، وإنما هو تعليق أو حكم على تصرف أو عمل معين بدون قصد المساس بشخص صاحبه، فالتمييز بين الشخص وبين عمله أو تصرفه هو الذى يفصل الحدود بين دائرة النقد المباح والقذف المعاقب عليه . وقد رفض الفقه بحق هذه الوجهة من النظر ، لأنها تحصر حق النقد في المجال الذى لا تثور فيه أية صعوبة ،فإذا اقتصر الناقد على النعي على تصرف أو عمل معين دون المساس بشخص صاحبه كالنقد الموجه إلى قانون أو قرار معين .فلا تتوافر بذلك أركان جريمة القذف .ومن ثم لا يعتبر حق النقد في هذه الحالة سبباً للإباحة. ولكن تثور الصعوبة في الحالات التي تتوافر فيها أركان جريمة القذف أو السب أو غيرهما من جرائم النشر التي يتضمنها النقد عندما يتضمن الحكم أو النعي على التصرف أو العمل في نفس الوقت نعياً أو مساساً بشخص صاحبه ، ذلك إنه في غالب الأحوال يكون من الصعوبة الفصل بين تصرفات الإنسان وبين شخصه .الأمر الذى يعنى أن الحكم على تصرف معين قد يستتبع المساس بشخص صاحبه .
وبناء عليه ،فالراجح أن عمل الناقد تتوافر به أركان الجريمة ، ومع ذلك فان الشارع يبيحه ترجيحاً للمصلحة الاجتماعية وهى أولى بالرعاية من مصلحة الفرد في حماية شرفه واعتباره .وتأخذ محكمة النقض بهذا التكييف لفعل الناقد، فقضت بتوافر النقد المباح في مقال انتقد فيه الكاتب سياسة وزارة الصحة فيما يتعلق باستيراد الأدوية ، كما تضمن المقال النعي على مدير مخازن الأدوية انه سبق أن سافر إلى الخارج لشراء أدوية ثبت من التحليل أنها غير صالحة ، وانه رغم ذلك يريد السفر إلى الخارج في بعثة أخرى .وجاء في هذا الحكم انه «إذا كان الصحفي يستهدف تزويد القراء بالأنباء التي تهم المصلحة العامة ، وحملهم عن هذا الطريق على تبادل الرأي فيما يهم المصلحة العامة ، فان ذلك يعطيه حقاً في أن يؤدى المصلحة الفردية في سبيل المصلحة العامة ، مادام انه لا ينبغي قضاء مآرب ذاتية أو أغراض شخصية ،لأن المصلحة العامة تربو على اى مصلحة فردية ».
أهميته :
وحق النقد يعتبر تطبيقاً لحرية الرأى أو صورة لها . ولا شك في أهميته البالغة، بالنسبة للفرد والمجتمع على السواء.فهو يؤدى إلى التطور نحو الأفضل ،وذلك عن طريق اكتشاف العيوب القائمة والعمل على تفاديها .وتمكين الأفراد من اقتراح ما هو أفضل لمصلحة المجتمع .بل لقد وصفه الدستور المصري – خصوصاً « النقد البناء » - بأنه « ضمان لسلامة البناء الوطني » . وفى هذا الصدد قالت المحكمة الدستورية العليا في حكم حديث لها صدر بتاريخ 6 فبراير سنة 1993 » ...أن الدستور قد عنى بإبراز الحق في النقد الذاتي والنقد البناء باعتبارهما ضمانين لسلامة البناء الوطني، مستهدفاً بذلك توكيد أن النقد- وإن كان فرعاً من حرية التعبير- وهى الحرية الأصل التي يرتد النقد إليها ويندرج تحتها ،إلا أن أكثر ما يميز حق النقد- إذا كان بناء-أنه في تقدير واضعي الدستور ضرورة لازمة لا يقوم بدونها العمل الوطني سوياً على قدميه ،وما ذلك إلا لأن الحق في النقد ، وخاصة في جوانبه السياسية ، يعتبر أسهاماً مباشراً في صون نظام الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وضرورة لازمة للسلوك المنضبط في الدول الديموقراطية » .
وتجدر الإشارة إلى أن حق النقد مكفول للكافة ، وبالتالي يمكن ممارسته عن طريق الصحف والمجلات المختلفة ، وسائر وسائل الإعلام ،كما يمكن ممارسته عن طريق النشر في كتاب أو غير ذلك من وسائل التعبير عن الرأى ، فهو حق لكل مواطن .
سند الإباحة :
لم ينص المشرع المصري صراحة على اعتبار النقد سبباً للإباحة، ومع ذلك فمن المجمع عليه فقها وقضاء انه لا مسئولية على الناقد عما يتضمنه النقد من جرائم طالما أنه قد التزم بالحدود المرسومة لحق النقد. ويستند هذا الحق إلى المادة 47 من الدستور التي تنص على أن « النقد الذاتي والنقد البناء ضمان لسلامة البناء الوطني ». وكذلك فإن إباحة النقد تجد سندها في المادة (60) من قانون العقوبات التي تمثل المصدر العام لاستعمال الحق. فتنص هذه المادة على أنه : « لا تسرى أحكام قانون العقوبات على كل فعل ارتكب بنية سليمة عملا بحق مقرر بمقتضى الشريعة » . ويلاحظ أن لفظ « الشريعة » المشار إليه في هذا النص يقصد به القانون بالمعنى الواسع .
شروط استعمال حق النقد :
يتطلب حق النقد لقيامه توافر خمسة شروط هي :
اولاً : يجب أن يرد النقد على واقعة ثابتة ومعلومة للجمهور.
ثانياً: أن يستند النقد إلى الواقعة الثابتة وينحصر فيها . ثالثا : أن تكون الواقعة محل النقد ذات أهمية اجتماعية.
رابعاً : أن يستعمل الناقد عبارات ملائمة في الحكم أو التعليق على الواقعة .خامسا: أن يكون الناقد حسن النية. ونفصل هذه الشروط فيما يلي :
· (أولاً) : يجب أن يرد النقد على واقعة ثابتة ومعلومة للجمهور :
يشترط لإباحة النقد أن ينصب على واقعة ثابتة ، وان تكون هذه الواقعة معلومة للجمهور. وبناء عليه، لا يباح النقد إذا قام شخص باختراع واقعة شائنة أو قام بتشويه واقعة صحيحة على نحو تبدو فيه بصورة مشينة، ثم قام بالتعليق عليها وإبداء الرأي فيها. أو استند في تعليقه على مجرد شائعات .
كذلك لا يباح النقد إذا كانت الواقعة التي يرد عليها غير معلومة للجمهور، لأن حق النقد لا يبيح كشف تلك الوقائع وإبداء الرأى فيها والتعليق عليها ، اللهم إلا في الحالات التي يجيز القانون فيها ذلك . تحقيقا لمصلحة عامة ، كما هو الحال في حق الطعن في أعمال الموظف العام أو من في حكمه . الذى يبيح لأي شخص أن يكشف واقعة لا يعلمها الجمهور ، ويقوم بالتعليق عليها ونقدها .مع ملاحظة أن كشف الواقعة والتعليق عليها في مثل هذه الحالة لا يكون استنادا إلى حق النقد وإنما يستند إلى الحق الذى قرره القانون في كشف هذه الوقائع ونقدها . ومؤدى ذلك ،انه إذا لم يكن للناقد الحق في كشف الواقعة ابتداء ، فلا يجوز له أن يتذرع بحق النقد ومن ثم ينبغي مسائلته عن الجريمة التي اقترفها .
ويثور التساؤل في الفقه حول ما إذا كان الناقد قد ذكر واقعة غير صحيحة أو غير ثابتة وقام بالتعليق عليها ، ولكنه مع ذلك ، كان يعتقد خطأ أن هذه الواقعة صحيحة ، فهل يستفيد المتهم من الإباحة استناداً إلى حق النقد أجاب بعض الفقهاء . على ذلك بأنه إذا ثبت أن المتهم كان يعتقد صحة الواقعة التي ذكرها، وكان هذا الاعتقاد مبنياًً على أسباب معقولة ، مستنداً إلى التحري والتثبت الواجبين عليه ، فإنه يستفيد من الإباحة . والحجة التي يقوم عليها هذا الرأى تتمثل في القول بأنه من الصعوبة بمكان بل من المستحيل على الشخص أن يذكر واقعة معينة دون أن يكون هناك أى شك على الإطلاق في صحتها ، وإنما يكفيه فقط أن يكون قد بذل ما في وسعه من دراسة وتحر للتأكد من صحة الواقعة .ونفس القول يصدق على من يذكر واقعة صحيحة في غير مجالها أو يذكر حكماً أو تعليقاً غير دقيق عليها. أما إذا لم يكن اعتقاد المتهم بصحة الواقعة التي ذكرها وعلق عليها مبنياً على أسباب معقولة، فإنه، وإن انتفى لديه القصد الجنائي وهو الركن المعنوي في جرائم النشر، ومن ثم تنتفي المسئولية الجنائية، يظل مع ذلك مسئولاً مدنياً عن الأضرار الناجمة عن فعله.
· ثانياً: أن يستند النقد إلى الواقعة الثابتة وينحصر فيها:
حق النقد يبيح للناقد الحكم أو التعليق على تصرف أو عمل شخص معين لإظهار مزاياه وعيوبه تحقيقاً لمصلحة اجتماعية. وهذا يتطلب من الناقد أن يذكر الواقعة الثانية إلى جانب الرأي أو التعليق الذي يبديه بشأنها بحيث يمكن للغير تقدير هذا الرأي أو التعليق في ضوء الواقعة التي أنصب عليها. أما إذا ذكر الناقد رأيه أو تعليقه دون أن يذكر الواقعة الثابتة التي يستند إليها، فلا يستفيد من الإباحة.
كذلك لا يتوافر حق النقد إذا كان هناك تناقض واضح بين الواقعة وتقييمها أو التعليق عليها، بحيث لا يمكن للقارئ أو المستمع استخلاصه منها عقلاً. فإن كان الرأي أو التعليق مستنداً إلى الواقعة، ويمكن استخلاصه منها بسهولة، فإن النقد يكون مباحاً حتى ولو كان هذا الرأي خاطئاً من وجهة نظر الغير، مادام الناقد حسن النية، ومعتقداً صحة الرأي أو التعليق الذي أبداه. وأساس ذلك، أن حرية الرأي تفترض أن يكون لكل إنسان الحق في أن يعتنق الرأي الذي يراه صوباً، مع التقييد –بطبيعة الحال- بالحدود المرسومة لممارسة حقه في النقد على نحو يكفل تحقيق الغرض الذي استهدفه المشرع من إباحته.
ويفترض حق النقد كذلك، أن يحصر الناقد حكمه أو تعليقه في الواقعة الثابتة مع عدم المساس بشخص صاحبها إلا في الحدود التي يستلزمها التعليق أو الحكم على هذه الواقعة. فإذا تجاوز الناقد مستلزمات التعليق على الواقعة أو الحكم عليها إلى التشهير بصاحبها، فلا يكون حق النقد متوافراً. وتطبيقاً لذلك قضى بأنه " ‘إذا تجاوز النقد الحد المقرر له وهو إبداء الرأي في أمر أو عمل دون المساس بشخص صاحب الأمر أو العمل بقصد التشهير به أو الحط من كرامته وجب العقاب عليه باعتباره مكوناً لجريمة سب أو الإهانة أو قذف حسب الأحوال، وإذن فلا يعد من النقد المباح التعرض لأشخاص النواب والطعن في ذممهم برميهم بأنهم أقروا المعاهدة المصرية الإنجليزية مع يقينهم أنها ضد مصلحة بلدهم حرصاً على مناصبهم وما تدره عليهم من مرتبات، بل أن ذلك يعد إهانة لهم..." وقضى في نفس المعنى بأنه: "يشترط في النقد المباح أن ينظر فيه الناقد إلى الأعمال ويبحثها بتبصر وتعتقل ويناقشها ليظهر الصالح منها والطالح، لا أن يمس الأشخاص..".
· ثالثاً: أن تكون الواقعة ذات أهمية اجتماعية:
يفترض حق النقد أيضاً أن تكون الواقعة التي ينصب عليها ذات أهمية بالنسبة للجمهور. وفي هذه الحالة فقط تتوافر علة إباحة النقد، وتتمثل في تغليب المصلحة العامة (التي تقتضي أن يناقش الجمهور الوقائع والتصرفات التي تهمه ويتبادل الرأي فيها للوصول إلى معرفة قيمتها بالنسبة له) على المصلحة الفردية.
وعلى ذلك، إذا كان التعليق أو إبداء الرأي منصباً على الحياة الشخصية للأفراد، وهذه الأخيرة لا تهم الجمهور بحسب الأصل، فلا يتوافر حق النقد، ومن ثم يسأل المتهم عما يتضمنه فعله من جرائم وعلة ذلك، أنه ليست هناك مصلحة اجتماعية في التعرض للحياة الخاصة للأفراد، بل إن الآداب العامة لتتأذى من إذاعة أسرارها وإبداء الرأي فيها. ولذا فإن القانون يفرض احترامها، ويعاقب من يتعدى على حرمتها.
ويلاحظ أن الوقائع ذات الأهمية الاجتماعية لا تقتصر فقط على الأمور المتصلة بالشئون العامة، كالمسائل ذات الطابع السياسي أو غيرها مما يرتبط بالمصلحة العامة، وإنما تمتد أيضاً إلى كل ما يهم الجمهور، مثال ذلك، تصرفات أو أعمال أصحاب المهن الحرة كالأطباء والمحامين والتجار، فأعمال هؤلاء الأشخاص تعتبر ذات أهمية اجتماعية، ومن ثم يجوز لكل فرد أن ينقدها مع التقيد بشروط حق النقد.
· رابعاً: استعمال العبارة الملائمة:
يجب أن يستعمل الناقد العبارات الملائمة في عرض الواقعة الثابتة محل النقد وفي التعليق عليها، وألا يتجاوز القدر المعقول الذي يقتضيه إبداء الرأي أو التعليق على الواقعة. وعلى ذلك، فإذا استعمل الناقد عبارات أقسى من اللازم للتشهير بصحاب الواقعة، فإنه يكون متجاوزاً لحق النقد. ويسأل جنيائياً عما يرتكبه من جرائم. وأساس ذلك، أن حق النقد –كغيره من الحقوق- ليس مطلقاً، وإنما ترد عليه بعض القيود التي تسمح بممارسته في إطار الهدف الذي من أجله قرر المشرع إباحته، ويتعين أن يلتزم الناقد بتلك القيود، ومنها أن تكون العبارات المستعملة لتقييم الواقعة أو التعليق عليها وإبداء الرأي فيها ضرورية لممارسة حق النقد ومتناسبة معها. وتقدير مدى ملائمة العبارة التي استعملها الناقد من شأن قاضي الموضوع في ضوء ظروف كل حالة على حدة، مع الأخذ في الاعتبار مجموع ما قاله أو كتبه الناقد.
ويسير القضاء المصري على التسليم بتوافر حق النقد متى كان الناقد قد استعمل العبارات الملائمة في صياغة رأيه أو تعليقه على الواقعة محل النقد، حتى ولو كانت هذه العبارات قاسية ما دامت الواقعة التي انصب عليها النقد تبرر استعمال مثل تلك العبارات. وتطبيقاً لذلك قضى بأنه: "يجب أمام مناقشة أمر من الأمور الهامة والحيوية للبلاد والتي يتوقف عليها مستقبل البلد وأمنه وحياته واستقلاله، أن يدلي كل صاحب رأي برأيه حتى يبين الغث من الثمين، وتبين الحقيقة واضحة. فإذا اشتد الجدل وخرج اللفظ في مثل هذه الحالة من اللين إلى النقد المر العنيف، وإلى القول اللاذع غير الكريم، مما قد يثيره الجدل والاندفاع في القول، وجب أن يغتفر ذلك لصاحب الرأي مادام وجهته المصلحة العامة وحدها".
أما إذا استعمل الناقد عبارات قاسية بلا مبرر، ولا تتناسب مع الواقعة موضوع النقد، فإنه يكون متجاوزاً لحدود حق النقد، ويسأل جنائياً عما يتضمنه فعله من جرائم. وتطبيقاً لذلك قضى بأنه: "إذا كان للإنسان أن يشتد في نقد خصومه السياسيين، فإن ذلك يجب ألا يتعدى حق النقد المباح، فإذا خرج إلى حد الطعن والتجريح، فقد حقت عليه كلمة القانون".